حكاية صورة
المكان: مبنى وزارة الداخلية في العاصمة صنعاء
الزمان: 1 سبتمبر 1974م
عندما أشرقت شمس الفاتح من سبتمبر من العام 1974م على مبنى وزارة الداخلية اليمنية في العاصمة صنعاء وجدت المكان أشبه بخلية نحل، فقد كان الجميع مشغولين بالترتيب لزيارة غير مرتب لها مسبقاً سوف يقوم بها رئيس مجلس القيادة المقدم إبراهيم الحمدي للوزارة ذلك الصباح، ولأجل ذلك حشدت الداخلية ما استطاعت من منتسبيها -قادة وضباط وأفراد- على عجل ودون أن تعلم بعد السر منها، وحين وصل القائد الحمدي كان كلٌ من وكيل الوزارة ومدير كلية الشرطة ومدير عام المرور في استقباله بينما شد بقية الرجال قاماتهم إحتراما للرئيس الجديد الذي لم يمضِ على قيادته للبلاد سوى ثمانين يوماً فحسب، وبتلك الوقفة العسكرية المهيبة اصطف الجميع، وعبر القائد الحمدي أمامهم شامخاً مهيباً كتاريخ بلده ..
لم يكن وزير الداخلية المقدم يحيى المتوكل في الوزارة وربما في صنعاء كلها في ذلك اليوم، لكن لم يكن تواجده أو غيره يهم الرئيس الحمدي بقدر حضور رجل معين من منتسبي الوزارة، والحقيقة أنه آخر شخص قد يفكر أحد منهم أن وجوده يهم رئيس الدولة أو قد يهمه لهذه الدرجة، بل أن الشكوك التي ساورتهم حيال الزيارة على الأرجح كانت تحوم في اتجاهات أخرى، وربما كانت الهواجس أن كارثة ما ستحل تواً فوق رأس الجهاز الأمني، فالبلد كانت على شفير هاوية إقتصادياً وعسكرياً وامنياً، وهناك ألف سبب للقلق، فربما كان ثمة حرب جديدة مع الأشقاء في الجنوب، أو بصدد مواجهة المزيد من الأعمال التخريبية أو أن انقلاباً ما يطل بقرونه، وبمجرد انعقاد اللقاء بدأ الرئيس كلمته أمام الجميع قائلاً : ” لقد شدني لزيارتكم العمل الشريف والشريف جداً، هو عمل لا يشرف المرور وحده بل يشرف الدولة بأسرها… “، ووسط جو مشحون بالقلق والترقب واللهفة ظل يسيطر على أوساط الحاضرين بدأ الرئيس يحكي سبب زيارته..
فقد بلغ القائد إبراهيم الحمدي بطريقة ما من خلال إحدى السفارات أن أحد رجال المرور قام باحتجاز سيارة فارهة أثناء تجولها في شوارع العاصمة صنعاء لأنها لا تحمل رقماً، واتضح له أنها تتبع تلك السفارة، ” فأوصلها إليهم بنفسه، وأبلغهم بأن النظام لا يسمح لأي سيارة لا تحمل رقماً في المرور (بالتجول)، فأعتذروا له، وقدموا له مبلغاً من النقود”، “لكنه رفضها، وقال: إن بلدي وكرامتي وشرفي لا تسمح بأن آخذ شيئاً مقابل أدائي واجبي” ..
ثم برقت عينا القائد الحمدي بمزيج من السعادة والفخر وهو ينظر لأحد الحاضرين قائلا: ” وأنا أعتبر هذا الجندي أشرف من أي مسؤول سواء كان صغيراً أو كبيراً لأنه بعمله هذا نقل صورة صادقة لليمني الشريف، وهذا الجندي وأمثاله هم الذين يطبقون قرارات التصحيح، وأرجو أن يعتبره كل منا قدوة في السلوك الشريف، وأن يقتدى به في جميع أجهزة الدولة، فلقد شرف اليمن، وأعطى للأجنبي صورة نزيهة وشريفة عن اليمن وأبنائها”
” إننا سنكرم كل إنسان يعمل العمل الشريف، ويحترم القوانين والقرارات التي تصدرها الدولة .. وهذا الجندي وأمثاله من المخلصين هم الذين يتحملون مسؤولية حماية المواطن وأمن البلاد”.
ووسط نظرات الإعجاب والحسد معاً المصوبة نحو زميلهم الجندي الشريف كان نجم الحفل يتلقى تكريماً رئاسياً خاصاً ومغتبطاً بأن تكون كل تلك الفعالية صنعت لأجله خصيصاً، كما استلم مكافأة مالية قدرها ألف ريال..
كان من أولى القرارات التصحيحية رفع رواتب القوات المسلحة والأمن برغم المعاناة الإقتصادية التي ورثتها الحركة من حقبة الرئيس الإرياني مما جعل القائد إبرا’هيم الحمدي منتشياً برؤية مؤشرات سريعة تدل على نجاعة الخطوات التصحيحية التي اتخذتها حركة 13 يونيو، فسيارات السفارات وغير السفارات اعتادت أن تسرح وتمرح دون أن يوقفها رقيب أو حسيب إلا إن كان بهدف الابتزاز وتقاضي الرشوة، والأجمل أن القائد نفسه كان يردد دائماً أن العالم يقيس درجة تحضر أي شعب بمدى إلتزامه بقواعد المرور، وقد رأى يومها أن رجله أوصل تلك الرسالة القوية من خلال تلك السفارة الأجنبية إلى آخر الكوكب بأن مجتمعاً عصرياً يتخلق في رحم 13 يونيو، وأن ما قبل يونيو لا يشبه ما بعده ..لا يشبهه أبداً.
———————————–
– المصادر: صحيفة الثورة الرسمية العدد (2031) تاريخ 2 سبتمبر 1974م صفحة 1، 2 ،
– إرشيف الإدارة العامة للإعلام،
– كتاب القائد الأسطورة
– تنويه: أحداث الواقعة كما وردت على لسان الرئيس إبراهيم الحمدي رحمة الله تغشاه،
منقول نصاً ” كما وردت في صحيفة الثورة ” .
———————————
– اعداد / سليمان السقاف